الحركات الثورية في أوروبا || تاريخ العالم

نشأت الحركات الليبرالية والتحررية في مجموعة من الدول الأوروبية كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وبولونيا….
وكانت بوادر الثورة الصناعية قد مست هذه البلدان ونهضت بها برجوازيات اشتغلت بالتجارة والصناعة .
الا انها وجدت أمامها عقبات تمثلت على العموم، في التجزئة السياسية التي كانت تعرقل نمو النشاطين التجاري والصناعي، وفي هيمنة أنظمة فيودالية عتيقة كروسيا والنمسا والإمارات التابعة لنفود هما.

الحركات الثورية في أوروبا


 وتعرضت البرجوازيات النامية لثقل الضرائب والحقوق الفيودالية البالية -- والتي لازال معمولا بها في اغلب تلك البلدان -- كما كانت تعاني من قهر الأنظمة المحافظة.

 الحركات الثورية في أوروبا منذ مؤتمر فيينا الى فشل ثورة 1848.

ووجد ممثلو البورجوازيات في الليبرالية الموجودة بانجلترا  مثالا حيا يسترشدون به، كما تبنوا أفكار الثورة الفرنسية الداعية إلى السيادة والحرية.

 فقاموا للمطالبة بالمشاركة في الحياة السياسية كانتخاب جمعيات وطنية تسهر على السلطة التنفيذية، وضمان الحريات العامة، كحرية الصحافة والتعبير والتجمع….الخ.
الا ان مؤتمر فيينا عارض مطالب هذه الحركات، فقام عناصرها بثورات متعددة منذ العقد الثاني من القرن إلى نهاية العقد الرابع منه.
وتميزت التوراة القائمة بفرنسا بكونها تارة ذات طابع ليبرالي (ثورة 1830)، وتارة أخرى ذات طابع عمالي محض كما هو الشأن في (ثورة يونيو 1848) بباريس.

الحركات القومية والتحررية والليبرالية ما بين 1815 و 1830.

أ) قام ممثلو الحركات القومية والليبرالية ما بين 1815 و 1830 بثورات استهدفت تحقيق الحريات الأساسية.

ابتداءا من 1817 ظهرت انتفاضات عديدة في ألمانيا خاصة بين الأوساط الطلابية، وكان الهدف منها ارغام الحكومات الألمانية على منح دساتير من شأنها أن تحد من الملكيات المطلقة وانت تصدى لمقررات فينا.
وفي إيطاليا كانت جمعية الكاربوناري السرية متواجدة بين صفوف الجنود و الفئات المستنيرة من سكان الامارات الايطالية.، وكان غرضها قلب الأنظمة العتيقة والقضاء على التدخل الأجنبي النمساوي والوصول بالبلاد إلى الوحدة، فقامت الحامية العسكرية في نابولي سنة ،  1820 بانتفاضة تمكنت إثرها من أخذ الحكم في هذه الإمارة،فتكفلت النمسا بقمع الثورة مما أثار انتفاضات أخرى داخل البلاد الإيطالية في البيمونت مثلا.
الا ان الجيش النمساوي أخمد هذه الحركات بالقوة.
وفي اسبانيا انتفض الجيش بمدينة قادس ضد الحكام سنة 1820، وكانت أهم مطالبه منح دستور للبلاد وخلق جو ديمقراطي، فتأسست حكومة ضمت النبلاء والليبراليين، بينما كان المشكل الرئيسي في اسبانيا هو وضعية الفلاحين الفقراء الذين يطالبون بتأمين أراضي النبلاء، فساءت بذلك علاقته الثوار العسكريين بأغلبية الفلاحين.
وفي هذا الظرف هاجم قوات فرنسية الاراضي الاسبانية، مدفوعة من جهة من طرف دول (الحلف المقدس) وراغبة من جهة اخرى ان تعيد لفرنسا الاعتبار -- على حساب الإسبان -- بعد انهزامات الجيوش النابليونية المتلاحقة( في السنوات 1815-1814) .
فسحقت القوات الفرنسية الثوار الإسبان بوحشية، وأعادت الحكم القديم من جديد إلى البلاد.
ورأى مترنيخ في أحداث 1820 خطرا كبيرا يهدد أوروبا.
تلت ثورات -1820 1822 فترة جزر، ثم عادت بعدها الحركات الثورية للنهوض ابتداءا من .،1830 ففي فبراير 1831 قامت الحركة في كل من إيطاليا وألمانيا الوسطى، حيث أقام الثوار نظاما دستوريا في الدوقيات المحررة )بارما ومودينا مثلا)، وبلغت هذه الثورة ألمانيا حيث نادى الثوار بالولايات الألمانية المتحدة.
الا ان مترنيخ عمل على توقيف الحركة في المانيا بيان حول مجلس الدييت -- مجلس الإمارات -- إلى مكان للتجسس ومطاردة الثوار، وهدد بتدخل الجيش الفيدرالي في حالة مصادقة المجلس على دستور يعارض الوضع القائم، كما راقب كل المجالس النيابية في كل الامارات الألمانية، ومنع التجمعات العامة، واوقف صدور الجرائد المعارضة، وأسس تنظيما للكشف عن الجمعيات السرية.
وفي فرنسا، قضى مؤتمر فيينا بعودة ملكية اسرة البوربون، وارتقى( لويس الثامن عشر ) (1828-1814) العرش بمساعدة وتأييد الحكومات الأوروبية المحافظة على راسها النمسا.
 وكان في رجوع الملكية إلى فرنسا عودة الطبقة الإقطاعية للحكم لكن مع مراعاتها لمصالح البرجوازية الفرنسية ووزنها، وبالتالي العمل على خلق توازن بين الطبقتين المتواجدين في السلطة على الرغم من اختلافاتهما الجوهرية: فقام لويس الثامن عشر باستدعاء المهاجرين النبلاء من المنفى، و استعادوا رتبهم ومراكزهم في الجيش والإدارة، في نفس الوقت حاول المحافظة على الحريات العامة والشخصية والاحتفاظ على مكاسب الثورة الفرنسية.
 إلا أن هذا التوازن اختل في عهد (شارل العاشر)( 1824-1830) الذي انحاز للتيار المحافظ، وكان يقول خير لي ان اكون حطابا من أن أحكم على شاكلة ملك إنجلترا.
فأعاد النبلاء والإكليروس ما لم يكونوا قد استعادوه بعد من امتيازاتهم القديمة، وأصدرت حكومته (قانون المليار) الذي أعطى النبلاء تعويضات عما صادرته منهم الثورة الفرنسية، كما تم وضع المؤسسات التعليمية تحت مراقبة ورئاسة الاكليروس، وقامت حكومة شارل العاشر باحتلال الجزائر، من أجل توجيه الانذار عن المشاكل الداخلية، المتمثلة من جهة في الأزمة الاقتصادية التي برزت ما بين (-18291827)، وفي ازمة سياسية عبر عنها التطاحن السياسي الذي أعقب انتخابات 1827 التي كانت قد أسفرت عن مجلس للنواب بدون أغلبية.

وفي 25 يوليو 1830 صدرت مراسيم ملكية (المراسيم الأربعة) تمنع الحريات العامة المعترف بها سابقا، وتراقب الصحافة وتعديل قانون الانتخابات وتحل البرلمان.
لذا قام سكان باريس بقيادة البرجوازية بثورة ضد ملكية شارل العاشر الذي اضطر الى التنازل عن العرش، وتولى وتولى مكانه لويس فيليب (1830 1848) الذي لقب ب (ملك الفرنسيين) والذي أخمد الثورة بالعنف، وفرض حكما فرديا على البلاد، وعارض كل اصلاح سياسي، وفرض قيودا على حرية الصحافة وعلى حق الانتخاب، بحيث اشترط أن يكون الناخب يدفع ضريبة اقلها 200 فرنك، وأن يتعدى سنه 25 سنة.
 وتخلت البرجوازية الكبرى عن مساندة مطالب أغلب سكان باريس، وفضلت الاحتفاظ بما توصلت اليه وهو السيطرة على الجهاز السياسي، وبذلك أجهضت ثورة 1830 في باريس.

ب) توصلت الحركات التحريرية في اليونان وبلجيكا إلى نيل الاستقلال، بينما أخفقت المحاولة البولندية.

كان التجار اليونانيين يعقدون صفقات هامة مع دول أوروبا الغربية، و يرتبطون بقروض ومبادلات مع الدول التجارية الأوروبية خاصة منها لندن، وبذلك أخذت الفئات الوسطى اليونانية تسعى للتخلص من ربقة العثمانيين.
وعند بداية القرن التاسع عشر أسس اليونانيون جمعية سرية تدعى (جمعية الاصدقاء) عملت على تهييئ الأوساط الدولية لمساعدة الحركة اليونانية خاصة في جزيرة (المورة) وذلك تحت قيادة رؤساء الكنيسة اليونانية وعلى رأسهم البطريق، فكان رد فعل العثمانيين عنيفا حيث تم إعدام البطريق و ثلاثين من الأساقفة وصلبهم، ويفسر استعمال هذا العنف بالدور الذي تلعبه العناصر اليونانية داخل الادارة والاقتصاد العثمانيين، إلا أن الجيش التركي لم يتمكن مع ذلك من إخماد الثورة، فقد احتمى الثوار بالجبال وتمكن البحارة اليونانيون من التمركز في الجزر الكثيرة، وتدخلت كل من روسيا والدول الأوروبية (إنجلترا وفرنسا) لحماية اليونانيين ومساعدتهم، وذلك بحكم الروابط الاقتصادية والسياسية والدينية التي جمعت اليونانيين بتلك الدول،
 وكذلك لدور الجمعية السرية في نشر القضية اليونانية على المستوى الدولي، فضغطت الدول الكبرى على الامبراطور العثماني من أجل توقيف غاراته، وفي 1822 اجتمع نواب المناطق الثائرة وأعلنوا استقلال اليونان، ثم حرروا دستورا وعينوا لجنة تتركب من خمسة أعضاء للقيام بمهمة السلطة التنفيذية.
 واذعنت تركيا مؤقتا للضغط الدولي، إلا أن الجيوش العثمانية عادت التدخل من جديد، فاستعمل الثوار امام تفوقها في العدة والعدد طريقة حرب العصابات، وبذلك طالت الحروب ولم يتمكن الجيش العثماني من التغلب على الثوار، فاستدعى السلطان جيش محمد علي للتدخل، وفي 1824 بدأ إبراهيم باشا (ابن محمد على) بغزو اليونان تدريجيا ابتداءا من جزيرة (المورة) وسحق الثوار المعتصمين بالجبال، وتمكن من دخول مدينة أثينا سنة 1827 وبعث بعدة آلاف من الأسرى اليونان الى مصر.

أمام هذا التطور الجديد الحاصل على ميزان القوى داخل البحر الابيض المتوسط، تدخل الأسطول الإنجليزي بمساعدة الفرنسي وحطم المراكب الحربية المصرية في معركة (نافارين) في أكتوبر ،1827 وأعلنت روسيا بدورها الحرب على تركيا وبدأت جيوشها تتسرب من شمال الإمبراطورية العثمانية في اتجاه الداخل، فاضطر السلطان للاعتراف باستقلال الدولة اليونانية الجديدة استقلالا تاما سنة 1828.
 وهكذا لعبت الدول الكبرى الدور المهم في إنهاء الحرب اليونانية ونيل البلاد لاستقلالها.
وفي بلجيكا التي قضت مقررات فيينا إدماجها في هولندا، كانت الاختلافات كبيرة بين البلدين: فقد كانت هولندا بلدا تجاريا بينما كانت بلجيكا بلدا زراعيا تطغى فيه العلاقات الفيودالية، وكان سكان بلجيكا أربعة ملايين نسمة وهولندا ثلاثة ملايين نسمة ومع ذلك كان عدد نواب كل منهما متساويا في المجلس النيابي، كما فرض ملك هولندا عليهم اللغة الهولندية كلغة  رسمية للبلدين، واسندت أغلب الوظائف السامية للهولنديين، فأثار كل هذا حقد البلجيك الذين قاموا بثورة ابتدأت في بروكسيل سنة 1830 وعمت سائر المقاطعات الاخرى، والف الثوار لجنة الدفاع الوطني لمقاومة الجيش الهولندي القادم لمحاربتهم فتمكنوا من ان يهزموه، ثم أعلنت اللجنة استقلالها وعقدت مؤتمرا بلجيكيا محضا ليضع دستورا للبلاد، وبذلك خاضت بلجيكا هذه الحركة التحررية بنجاح، وانفصلت عن الموجة المحافظة التي سادت أوروبا آنذاك بفعل الدعم الفرنسي والانجليزي وعلى اساس ان تكون بلجيكا حيادية.
 أما بولونيا فقد أصبحت مستعمرة روسية منذ مؤتمر فيينا لسنة 1815 ، وظل  الشعب البولوني يبحث عن أشكال للمقاومة إلى حلول سنة  ،1830 حيث اندلعت في فرسوفيا ثورة أعلنت استقلال البلاد. فهاجمت الجيوش الروسية بولونيا، واستغرق إخماد المقاومة مدة 10 أشهر، استعملت فيها القوات القيصر نيقولا الأول وسائل وحشية.
 والخلاصة أنه إذا كانت ثورات 1830 قد أخفقت على العموم -- مع تمكن اليونان وبلجيكا من الاستقلال -- فإنها كانت استمرارا لحركة اخمدت مؤقتا لتظهر من جديد بشكل أكثر حدة وعمقا في سنة 1848.

 ثورات 1848 واسباب فشلها.

أ) شهد غرب أوروبا أزمة في المواد الغذائية ما بين 1845 و 1847.

عرف الإنتاج الفلاحي في جل دول أوروبا منذ 1837 مرحلة عسيرة، فقد كان شتاء -18451844 قارصا ومطيرا أدى إلى إتلاف المحاصيل الزراعية خاصة الحبوب، في الوقت الذي عرفت فيه السنوات الفارطة تقلص الإنتاج الزراعي.
 وتضافرت عوامل طبيعية أخرى أدت إلى تفاقم الوضع في فرنسا: فقد هبت على البلاد رياح قوية اتلفت تجهيز الموانئ وجعلت من الصعب استعمال الطرق وتوزيع الحبوب المستوردة من روسيا انطلاقا من ميناء مرسيليا، فشاع خزن المواد الضرورية وارتفعت الاسعار وكثرت المضاربات بل وظهر في بعض المناطق وباء التيفوس في 1846 والكوليرا في 1848.
وساعدت هذه العوامل الاقتصادية والطبيعية على اذكاء نار الثورة من جديد بين شعوب أوروبا، فقامت ثورات 1848 في فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا عرفت انتصارات من مارس إلى يونيو 1848.
واكتست الثورات صبغة خاصة من بلد لآخر، فكانت عمالية في فرنسا -- بسبب تقدمها الصناعي وظهور الطبقة العاملة والظروف السيئة التي كانت عليها هذه الفئة الاجتماعية -- وقومية ليبرالية في الأجزاء الأخرى من القارة،واندلعت الثورة من باريس ومنها انتقلت إلى البلدان الأخرى في ظرف وجيز.

ب) كانت ثورتا فبراير ويونيو 1848 في فرنسا ثورتي طبقتين مختلفتي المصالح والأهداف.

وقامت الجمهورية الثانية التي تراستها حكومة مؤقتة (من 24 فبراير إلى 4 مايو 1848).
وضعت هذه الحكومة الاشتراكي الإصلاحي لويبان وراديكاليين مستعدين للقيام باصلاحات سياسية إلى جانب أغلبية من الجمهوريين المنتمين الى البرجوازية والذين كانوا قانعين من الثورة بقيام نظام جمهوري وتوسيع نطاق حق الانتخاب، فأعلنت الحكومة حق الانتخاب لجميع المواطنين البالغين 21 سنة، فبلغ عدد الناخبين 9 ملايين عوض 240,000 ناخب في 1846.وألغت الحكم بالإعدام عن الأعمال السياسية، واتخذت قرار بإلغاء الرق، كما أعلنت حق العمل وخفضت من مدته، وتعهدت الحكومة بأن تؤمن لجميع الفرنسيين العمل الكافي لمعيشتهم، فصدر مرسوم على الفور بإنشاء المعامل الوطنية، الا ان الحكومة اصدرت فيما بعد قرارا بإغلاق تلك المعامل، وهددت العمال بالطرد، فاتضحت بذلك نواياها الخفية.
 عندئذ قامت ثورة عمالية في باريس (من 23 الى 26 يونيو 1848) فمنحت الحكومة السلطة للجنرال كافينياك لقمع الثورة المضادة (أي ثورة العمال ضد البرجوازية) وأقام العمال المتاريس عبر شوارع مدينة باريس احتماء من هجوم جيوش كافينياك عليهم.

وامام الصمود الذي اظهروه، قامت جيوش كافينياك بقصف الأحياء التي يحتمي بها العمال.
وكانت النتيجة مقتل أكثر من 500 عامل، ثم أعدم 1100 منهم رميا بالرصاص بعد استيلاء الجيش البرجوازي على تلك الأحياء، وقد رأى الاشتراكيون في ثورة يونيو 1848 صراعا طبقيا بين الملاكين والبلوريتانيا.
وكنتيجة لهذه الصراعات تمكنت الفئة المحافظة من البرجوازية الفرنسية من استعادة انفاسها، خاصة وأن غالبية الشعب الفرنسي قد فقد الثقة في الحكومة الجديدة بسبب هذه المعاملات الوحشية، ففي الانتخابات الرئاسية لدجنبر 1848 نال لويس بونابرت حفيد نابليون اصوات الاغلبية ضد منافسه الجنرال كافينياك، وصادق المجلس التشريعي الجديد على قوانين رجعية أهمها القانون الانتخابي الجديد(31 مارس 1850  ) الذي علق ممارسة حق الاقتراع بشروط أهمها:
 أن تكون مدة إقامة الشخص المنتخب ثلاث سنوات في مكان واحد، مما ادى الى انقاص عدد الناخبين المسجلين في اللوائح من 6.9 الى 6.8 ملايين.

كما أن رئيس الجمهورية أقام حكما فرديا وأسس الحزب البونابارتي، و دعم نفوذه في أوساط الجيش وبين الشخصيات السياسية الشيء الذي مكنه من قلب نظام الحكم في 2 دجنبر 1851 إعلان الامبراطورية سنة بعد ذلك، حيث سيحكم البلاد حكما دكتاتوريا إلى 1870 حاملا لقب نابليون الثالث.
 اذا كانت الثورة في فرنسا.
ملاحظة.
إذن كانت الثورة في فرنسا من صنع الطبقة العاملة، واذ اسقط عمال باريس الحكومة، فإنما كانوا قد صمموا العزم على إسقاط النظام البرجوازي، غير أن إدراكهم للصراع القائم بين طبقتهم وبين البرجوازية لم يبلغ حين ذاك، لا من حيث تقدم البلاد الاقتصادي، ولا من حيث التطور الفكري للعمال الفرنسيين، درجة تمكن من تغيير الأوضاع الاجتماعية، فأخفقت ثورة 1848.

ج) ثارت الشعوب الأوروبية سنة 1848 بشكل أكثر نضجا من السابق.

قادت الحركة في فيينا فئة المثقفين الذين كانوا يطمحون في أن يكون لهم نفوذ أكبر في تسيير شؤون الدولة، ووجهت هذه الفئة انتقاداتها للحكومة من اجل الاعلام عن نفقات ميزانية الدولة وجميع مرافق الحكومة، وكانت ترى في سقوط ملكية لويس فيليب في فرنسا مساندة لمطالبها، وانضم السكان إلى جانبها فاستقال مترنيخ، ومنح دستور للبلاد وتأسيس برلمان منتخب، وكانت الحكومة قد أذعنت لهذه المطالب مضطرة.
كما أن الحركات القومية قامت لتطالب بحريات أوسع وبحقها في تقرير مصيرها خاصة، وان الإمبراطورية كانت مزيجا من الشعوب المختلفة.
 وطالب المجريون بحكومة مستقلة عن النمسا وبوضع حكم دستوري، وقبلت الحكومة منحهم دستورا، غير أن أقليات الصربيين والرومانيين التابعة للمجر، من مجموع السكان لم تكون لتقبل بهذا الوضع و باشتعال الثورة المجرية، تدخل قيصر روسيا لقمعها بمساعدة النمسا، والتقى الجيشان الروسي والنمساوي في مدينة براغ بعد أن أخمدا الثورة.
واستغلت كل من إيطاليا وألمانيا فرصة اندلاع الثورة في فيينا، فقامت كل منهما بمحاولات للانفصال عن الإمبراطورية النمساوية، ووضعت كثير من الامارات الايطالية دساتير للحد من الحكم المطلق وتدعيم الحريات العامة، وتمكنت الحركة من طرد البابا من ممتلكاته وتأسيس جمهورية روما، وفي مناطق اخرى ايطالية، تم طرد الأمراء إلا أن النمسا استعادت نفوذها من جديد، فهاجمت جيوشها الإمارات الثائرة، واستعاد البابا سلطته في روما، وتم توقيف المد الثوري بالقوة.

 وفي ألمانيا قامت الحركات القومية انطلاقا من الجنوب ثم شملت جل الدويلات، وتمكن الثوار من فرض آرائهم حول القيام بإصلاحات دستورية، واضطر ملك بروسيا فريدريك كيوم الرابع إلى قبول العمل بالدستور واستدعاء برلمان تحضيري، واعلن ضمان حق التصويت لجميع المواطنين بنسبة نائب واحد لكل 50 ألف نسمة وقيام برلمان تأسيسي تولى إعداد دستور للبلاد.
وتم تحقيق هذه الإصلاحات في ألمانيا نظرا لتحالف البروريتانيا مع البرجوازية ضد الإقطاع والحكم المطلق، إلا أنه سرعان ما ارتدت البرجوازية الألمانية ضد البروليتاريا عندما احست بان الطبقة العاملة قد أخذت تعمل بنوع من الاستقلال، فاتجهت البرجوازية للتحالف مع عدوها السابق --الإقطاع-- مستفيدة من موقف البرجوازية الفرنسية منذ 1830 .
وعادت القوى المحافظة للسيطرة على الوضع من جديد، وبحلول صيف 1849 كان القضاء على الثورة قد تم تقريبا، وانتصر المحافظون استعمال وسائل العنف.
 وكانت أحداث 1848 ذات مغزى عميق، إذ لقنت درسا لمختلف الحركات الثورية، وستعمل كل من تلك الحركات على متابعة مسيرتها بشكل أكثر نضجا.



إرسال تعليق

أحدث أقدم