المذاهب الفكرية الجديدة - المـذهب الليبيرالي الكلاسيكـي - Classical Doctrine

نشأت الافكار الليبرالية كإطار فكري للرأسمالية الصناعية الانجليزية ، وكانت هذه الافكار خلال القرن الثامن عشر شعاراً للفيزيوقراطيين الذين اعتبروا أن الارض والطبيعة هـي التقدم البشري، ثم انتقلت منذ نهاية القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر الى الكلاسيكيين الذين وضعوا العمل في الموضع الذي أنزل فيه الفيزيوقراطيون الارض.

 وكان هـذا التحـول الفكري ناتجا عن تحول الرأسمالية من المرحلة الزراعية ـ التي عبر عنها الفيزيوقراطيون فكريا ـ الى المرحلة الصناعية التي ابتدأت في انجلترا مع الثورة الصناعية والتي حمل أفكارها الكلاسيكيون وأهمهم :

 آدم سميث ( 1723 – 1790 ) وروبرت مالتوس ( 1766 1834 ) ودافيد ريكاردو ( 1772 – 1823 ) وستيوارت میل ( 1806 – 73 18 ) بانجلترا ، ثم جان بابتيست ساي ( 1767 – 1832 ) بفرنسا.

المذاهب الفكرية الجديدة - المـذهب الليبيرالي الكلاسيكـي - Classical Doctrine

وخلافا لذلك لاحظ المفكرون الاشتراكيون الاوائل الفوارق الكبيرة التي كانت موجـودة بين مختلف الفئات المكونة لمجتمعاتهم، وتخيلوا حلولا لتحسين حالة « الفقراء »، وكان أشهرهم بابو ( 1760 – 1797 ) وسان سيمون ( 1760 – 1825 ) وروبرت أوين ( 1771 – 1758 ) وفوريي ( 1772 – 1837 ) وبرودون ( 1809- 1865 ).

وانبثق عن الفكر الاشتراكي الاصلاحي مذهب جديد هو « الاشتراكية العلمية » ، كان أهم واضعيه : کارل ماركس – ( 1818 ـ 1883 ، و فرديريك إنجلز ( 1820 – 1895 ).

المذاهب الفكرية الجديدة || I ـ المـذهب الليبيرالي الكلاسيكـي.

1 – الفكـر الاقتصـادي :

أ ـ آمن اليبيراليون الكلاسيكيون بكون حرية الفرد في ممارسة الاعمال هي الضمانة الاولى لكل نمو اقتصادي:

يعتبر الليبيراليون الكلاسيكيون التملك الفردي لوسائل الانتاج لوسائل الانتاج مسلمة أساسية تضمن معنى الحرية الفردية في القيام بالاعمال الاقتصادية في مختلف القطاعات، وفي هذا يقول آدام سميث في كتابه « ثروة الامم » :

« ما دام كل فرد لم يعرقل قوانين العدالة، فانه يحتفظ بمطلق الحرية في اتباع السبيل الذي ترشده اليه مصالحه ، ويستثمر صناعته أو رأس ماله أينما شاء بالمنافسة مـع جميع الافراد الآخرين ».
 وتؤدي هذه المبادرات الفردية الحرة والمنافسات القائمة بينها للوصول الى حالة من التوازن بطريقة آلية وبأقل تكاليف ممكنة، فيحدث تكيف للانتاج مع الاستهـلاك، وتنظيـم عفـوي للمبادلات وللاثمان بين مختلف القطاعات الاقتصادية، كما تفرضه حالة الحاجيات والاسواق، أي نصل الى « التناسق التلقائي » بين المعطيات الاقتصادية والحاجيات البشرية:
اذا قام رأسماليان باستثمار أموالهما في صناعة النسيج مثلا، ساهمت المنافسة بينهمـا في تحديد الثمن المناسب لبيع قطعة الثوب، كما أن قدرة المستهلكين الشرائية تجعل الانتـاج يتكيف حسب حاجيات السوق الاستهلاكية ولا يتعداها، وبذلك يحدث « التناسق التلقائي » الذي استنتجه الليبيراليون الكلاسيكيون نظريا، بينما ستفرض طبيعة التحول الرأسمالي ظروفا مخالفة لهذه الاستنباطات النظرية:

ب ـ لا يقبل الليبيراليون الكلاسيكيون تدخل الدولة في الاقتصاد ويحصرون دورها في حمايـة النظـام الحـر:

أمام هذه الحرية المطلقة للافراد في تسيير شؤونهم الاقتصادية ، وأمـام حـدوث ذلك « التناسق التلقائي » دون توجيـه أو تخطيط مسبق ، تطرح مسألة مدى تدخل الدولة فـي الاقتصاد.

فیجیب آدام سمیت.
(( لا ينبغي على الحاكم أن يكون المراقب من فوق لصناعات الافراد ، وليس من شأنه ان يوجه تلك الصناعات نحو المشاريع الاليق التي تستهدف المصلحة العامة للمجتمع .
فمثل هذا العمل سيعرضه بشكل حتمى ودا ئم الى الخطأ ألف مرة . وليست هناك أيـه عبقرية أو علم انساني يمكنه ان يقوم بهذا الا مر بشكل كاف . لذلك فان الحاكم سيتخلـي وبشكل نهائي عن هذه المهمة التي لا يمكنه انجازها » .
مترجم عن : أدام سمیت (( ثروة الامم )).
وكلما خلقت الدولة لنفسها أجهزة اقتصادية وقامت بجمع مداخيل - الجمارك والضرائب مثلا الا وكان ذلك على حساب تراكم رؤوس الاموال الصـالـحـة لتطويـر المعامـل والمصانع.
فمهمة الدولة تتلخص من جهة في حماية المجتمع ككل ضد التدخلات الاقتصادية الخارجية، ومن الفرد ضد محاولات الحد من انطلاقته وحريته من طرف بعض العناصر جهة ثانية في الدفاع عن داخل المجتمع الذي بعيش فيه، اذن فشعار الليبيراليين الكلاسيكيين هو: (( دعه يعمل، دغه يسير )).

2 ـ الفكر الاجتمـاعـي :

ا ـ يتكامل دور العمال ورجال الاعمال في اطار هذا النمط الانتاجي الحر:

حتى تستقيم الاحوال لنمط اقتصادي من هذا النوع ، فان الليبيراليين الكلاسيكيين قد غلفوا نظرياتهم الاقتصادية بمفاهيم معينة، لشرح معنى العلاقات التـي يجب أن تسـود بين الطبقتين : الرأسمالية والعمال.

يقـول آدام سمیت:
(( ان بطن الغني لا يتناسب مع رغباته، ولا يختلف حجم بطنه عن بطـن القروي السمين، ان الاغنياء لا يستهلكون أبدا أكثر من الفقير، فعلى الرغم من تهمهم ومن فردانيتهم، فانهم يقتسمون مع آخر مستخدم نتاج الاعمال التي يقوم بها
ويبدو بأن يداً خفية تجبرهم على توزيع الحاجات الاساسية للحياة ، هذا التوزيع الذي يمكن أن يحدث اذا كانت الارض قد أعطيت بقسمة عادلة لكل فرد من سكانها، وبذلك فان الفني يخدم مصالح المجتمع وتزايد النوع البشري ، دون ان يخطر ذلك على ذهنه بل دون أن يعرفه.
ان القدر حينما وزع الارض بين يدي عدد قليل من الافراد الاغنياء ، فانه لم يهمل الذين يبدو بأنه قد نسي أن يقدم لهم نصيبا.. ان لهم قسطا من كل ما تنتجه هذه الارض ».
مترجم عن آدام سمیت : " نظرية في الشعور الاخلاقي » .

وعلى هذا فان « جون ستيوارث میل » يدعم الرأي السابق وذلك بقوله:
(( ان على هاتين الطبقنين ( الرأسمالية والعمالية ) أن تتعلما عن طريق الممارسة كيف تؤخذان مجهوداتهما نحو بلوغ غايات شريفة ، تفهم في اطار المصلحة العامة ومصلحة المجتمع ، وليس في اطار نظرات ضيقة ذات مصلحة خاصة ، كما كان عليه الشأن لحد الآن )) .
ومقابل هذا التكاثف للجهود ، فان « دانید ریکاردو يحدد مقدار القسمة التي قدرها القدر لتكون من نصيب العمال :
(( ان الثمن الطبيعي للعمل ، هو الذي يضمن للعمال وسائل البقاء على الحيـاة والاحتفاظ بنوعهم ، بدون زيادة أو نقصان ))
مترجم عن : دانند ریکارد و مبادىء في الاقتصاد السياسي والغرائب » :
أما من حيث مستوى العامل في معرفة الصالح العام . ومدى مشاركته في تسيير الشؤون العامة ، فان آدام سميث يقول :


« ان العامل غير قادر لا على معرفة الصالح العام ولا على الاحساس بعلاقة الصالح العام بمصلحته الخاصة، وان وضعيته لا تترك له الوقت قصد اخذ المعلومات الضرورية لفهم هذا الشيء، وحتى لو افترضنا بأنه استطاع أن يفهمه فهما كاملا ، فان تربيته وعاداته تجعله في حالة لا يستطيع معها أن يقرر قرارا حسنا، وعلى هذا فاننا لا يمكن أن نطلب رأيه في القرارات الجماعية »

مترجم عن : آدام سميث : « ثروة الامم » .

ويأتي موقف الليبيراليين الكلاسيكيين هذا من العمال من كون قوة عمل العامل تعتبر بضاعة ، وثمن هذه البضاعة هو الاجر الذي يتقاضاه العامل حسب ظروف العرض والطلب . فكلما كثـر العرض قل الاجر والعكس بالعكس، ومن هنا فان كل مطالبة برفع الاجور لا تتعدى أن تكون مساً بحرية العمل الاقتصادي الحر، ويفرض في هذه الحالة تدخل الدولة بوسائلها المختلفة قصـد اخماد كل نوع من هذه المطالبات.

ب ـ ظهرت مفاهيم تشاؤمية حول تكاثر السكان :

الى جانب الصراعات الاجتماعية ، عايش الليبيراليون الكلاسيكيون مسألة الزيادة المطردة لاعداد السكان منذ نهاية القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر، فاهتم عدد منهم بتحليلها وتعليل أسبابها واستخلاص نتائجها . وكان من أبرز من اهتم بذلك هو « روبرت مالتوس » الذي أصدر كتابا سنة 1798 أسماه « مباديء حول السكان ».


ويشرح في هذا الكتاب كون فقر الاغلبية من السكان يعود الى كون أعداد السكان ترتفع بصورة تفوق بكثير زيادة المواد الزراعية التي تمنحها الطبيعة، فالطبيعة ـ حسب رأيه ـ لا تتمكن من ارضاء حاجيات السكان ، في حين أن اعداد هؤلاء يزيد بسرعة، فتكاثر السكان يتم على شكل متوالية هندسية ، في حين أن تزايد المواد الغذائية يسير على شكل متوالية حسابية، ومعنى ذلك أنه سيحدث في المدى البعيد انعدام توازن بين عدد السكان والامكانيات الغذائية، ولـن تتم العودة الى التوازن الا تحت تأثير الحروب و المجاعات أو بنهج سياسة لتحديد النسل.

ويدعم « دافيد ريكاردو » هذه الافكار ، بأن يحمل مسؤولية فقر الفقراء لكونهم ينجبون الاطفـال بكثـرة:

« هناك حقيقة لا تقبل النقاش وهي ان العيش الرغد للفقراء لا يمكن ضمانه اذا لم يبحثوا هم أنفسهم أو اذا لم توجههم القوانين نحو النقصان من نسبة الزواج بين افرادهم الصغار السن والمحدودي النظرة للامور " .
مترجم عن : دانید ریکاردو " مبادىء في الاقتصاد السياسي والضرائب ».

وهكذا وأمام الضغط العددي للفئات البروليتارية ، يقف الليبيراليون الكلاسيكيون موقفا تشاؤميا من الزيادة الحاصلة في اعداد السكان، ويقومون بتحليلات لاسبابهـا وعواقبهـا متغافلين عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في خلق المسألة كالتوزيع غير العادل للثروات.

3 ـ في ميدان مبادلات التجارة الخارجيـة :

يقترح « دافيد ريكاردو » ـ في هذا المجال ـ أن تختار الدولة من بين مادتين اثنتين للانتاج، المادة التي تملك فيها أفضلية نسبية ، أي تكون تكاليفها النسبية أقل من تكاليف دولة أخرى وعلى هذا الاساس تتخصص الدولة الاولى في انتاج المادة وتبيعها للدولة الاخرى التي تتخصص هي أيضا في انتاج المادة الثانية.


وكـان لهذه النظرية الريكاردية تأثير على السياسة التي اتبعتهـا بريطانيـا في مبادلاتهـا الخارجية ، فأخذت تشتري المواد الزراعية من الخارج مقابل انتاج صناعتها.

 كما دعا الليبيراليون الكلاسيكيون الى الاتجاه للبحث عن منافذ للبضائع الصناعية الفائضة:

« عند ما يفوق انتاج قطاع معين من الصناعة ، ما يتحمله الطلب داخل البلد ، فانه من اللازم أن تبعث بالفائض الى الخارج قصد مبادلته بشيء ما يكون الداخل في حاجة اليه وبدون هذه الصادرات فان نسبة من العمل المنتج للبلاد ستتوقف ، وتنقص معهـا حتميا القيمة السنوية لانتاج البلد . وعلى هذا فان اقامة تجارة مع القارة الامريكية من شأنها أن
تخلق لاوربا ازدهارا کیمرا » .
مترجم عن آدام سميث : « ثروة الامم »
وأدى البحث عن هذه المنافذ الى استغلال خيرات القارات الاخرى لصالـح الرأسماليـة
الآخذة بالمذهب الليبيرالي.

والخلاصة:

 فان أفكار الليبيراليين الكلاسيكيين قد وجدت لها صدى قويا لـدى الدول الرأسمالية الاوربية : فقد تقلصت مهام الدولة في الشؤون الاقتصادية سواء بالنسبة لانجلترا أو لعدة أقطار أوربية أخرى ، بل ان رجال الاعمال هم الذين كانوا يوجهون سياسة دولهم بطريقة غير مباشرة .

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر قلت قيمة الضرائب الجمركية في الموانيء الانجليزية بصفة تدريجية ، إلى حد أصبح فيه التبادل حرا . وابتداء من 1860 تخلت عدة دول من أوربا الغربية عن مبدأ الحمائية ، وشجعت المبادلات مع الدول الاخرى الاوربية عن طريق الاتفاقيـات التجارية.
على العكس من ذلك ساهم الاتجاه نحو اقامة التبادل الحر خارج أوربا الى المزيـد مـن تسرب التجاري الاوربي وسقوط كثير من مناطق القارات الاخرى تحت نفوذ الرأسمالية الاوربية.









إرسال تعليق

أحدث أقدم