المجتمع الرأسمالي والحركة العمالية في أروبا الغربية

 ارهاصات الثورة الصناعية والحركة العمالية باوروبا عقب الثورة الصناعية.

المجتمع الرأسمالي والحركة العمالية في أروبا الغربية  تاريخ العالم.

قامت الثورة الصناعية بانجلترا ثم امتدت فيما بعد الى عدة دول في أوربا الغربية والى أمريكا الشمالية، واذا كانت هذه الثورة قد خلقت تطورا جوهريا في المياديـن التقنيـة، وذلك لتعويض الآلة للعمل الحرفي وميلاد المنشئات الصناعية التي حلت تدريجيا محل الجرف، فانها نمت الى جانب ذلك، ثروات كبار الرأسماليين الذين استفادوا من تلك الاختراعات وذلك علـى حساب يد عاملة تكاثرت أعدادها تبعا للتقدم الصناعي ، وعرفت ظروفا معيشية قاسية
وضمت المجتمعات في أوربا الغربية فئات أخرى كالفلاحين الفقراء والارستقراطية الفلاحية والفئات المتوسطة، الا ان الصراع بين البور جوازية من جهة والفئة العاملة من جهـة أخـرى طغى على بقية الصراعات منذ بداية القرن التاسع عشر.

المجتمع الرأسمالي والحركة العمالية في أروبا الغربية

1 – تعزيز مركـز البورجوازيـة:

ا ـ خلقت الصناعات الكبرى ، بورجوازية غنية من كبار رجال الاعمال في المـدن:

منذ القرن السابع عشر كانت نسبة مهمة من الارستقراطية الانجليزية قد حولت نشاطاتهـا الاقتصادية، وأخذت تستهدف استثمار رؤوس أموالها في الميدانين التجاري والصناعي عـوض الاهتمام بالارض والقطاع الفلاحي ، وبذلك انتقلت هذه الفئة الاجتماعية الانجليرية الى مرحلة جديدة هي مرحلة الرأسمالية منذ وقت مبكر.

اما في فرنسا فان الصراع بين البورجوازية الناشئة والفيودالية قد اكتسي طابعا عنيفا، وبحلول الثورة الفرنسية سنة 1789 بدأ توسع نمط الانتاج الرأسمالي مما اضطر بعض الارستقراطيين الى التكيف الظروف المستجدة.
وكان أغلب الرأسماليين في أوربا الغربية قد انطلقوا من النشاطات التجارية أساسا ثم تحولوا بعد مرور عدة أجيال الى الصناعة ومنها الى الصناعات الكبري، وبذلك أصبحوا من كبار رجال الاعمال عند نهاية القرن التاسع عشر، و يقدم لنا النص التالي مثال أسرة - بيريي - perrier الفرنسية:


« - الجيل الاول : حوالي سنة 1730 كان (( بيريي )) الجد يشتغل تاجرا في النسيج، وقد اشترى بعض القطع الارضية وبضعة عقارات.

- الجيل الثاني : أصبح (( كلود )) ( ابنه ) يصدر المنسوجات عبر ميناء مرسيليا، وانشأ مصنعا للورق الملون الذي يلصق على الجدران .... وفي 1794 أقام عدة مصانـع للاسلحة، ثم اشترى عدة املاك من الدولة، كما اصبحت له أكبر مساهمـة فـي شـركـة « انزان » المنجمية، وقد تكلف بمصاريف انقلاب 18 ( بريمر » وكان أحد مؤسسي بنك فرنسا.

- الجيل الثالث : أصبح ثمانية ـ من بين عشرة من أبناء وحفدة (( كلود )) ـ نواباً برلمانيين واشترت عائلة ( بيربي ) معامل (( شایو )) لاذابـة الحـديد، واسست (( بنك بیریی )) بباريس سنة 1801، وجهزت مناجم ( انزان ) بالآلات البخاريـة، وفي 1832 اصبح (( کازیمیربیریی )) ـ احد ابناء كلود – الوزير الأول لفرنسا، وكان يشغل في نفس الوقت منصب والي بنك فرنسا ومدير بنك بيريي.

- الجيـل الـرابـع: كان أحد أفراد عائلة بيريي واليا لبنك فرنسا وآخر وزيرا سنة 1871.

- الجيـل الخـامس : تقلب ( جان بيريي ) في منصب رئيس مجلس النواب، ثم رئيسا لمجلس المستشارين ثم رئيسا للجمهورية الثالثة ما بين 1894 و 5 189، وتمون اسرة بيريي وتراقب مؤسسات معدنية ومنجمية وبنكية »

مترجم عن : ملفات التوثيق الفرنسي ـ القرن التاسع عشر.

ب ـ تكاثرت النشاطات الاقتصادية ارجال الاعمال وتضخمت أرباحهم كما تكيفت حياتهم العائلية مع النمط الرأسمالي:

« في سنة 1823 كان السيد (( جون کو کریل ) ( الهولنـدي الجنسية ) يمتلـك ( المؤسسات الصناعية التالية ): فرن عـال لاذابة المعادن يسير بفحم الكوك باقليم لبيج ( البلجيكي )، ومصنع للنسيج بالمدينة ( لييج )، وآخر بمدينة ايكس لاشابيل (وستفاليا الالمانية )، ووراقة ومعمل للاقمشة بمدينة كو طبيس ببروسيا، ومصنع لغزل الصوف ومناجم الزنك بمدينة سطو لبيرج بيروسيا الرينانية ، ومعمل الاغطية بمدينة برزلبورج ببولونيا ، ومعمل للقطن بمدينة برشلونة ( باسبانيا ) و مطاحن لقصب السكر تسير بالبخار بمدينـة سوريام الموجودة بمستعمرة غويانا الهولندية ، ومصنعان لخيوط الاغطية بمدينتي برلين وكوبان ( الالمانيتين ) ومؤسسة لصنع آلات التسخين بفال بونسوا ، ودار تجارية لبيع المنسوجات القطنية بأمستردام ( هولندا ) ، و معمل لصنع خبـوط القطـن بمدينـة شبـاً ( بالكونغو البلجيكي) .. ويقيم السيد كوكريل حاليا بالقرب من مدينة ( بترسبورج الروسية ) معامل لصناعة الآلات البخارية والقاطرات و عربات القطار، كما شرع في استغلال منجم للمحم عند مدينة سانت ايتيان ( الفرنسية )، ويفكر بأن ينشأ بالقرب من هذا المنجم أفرأنا عالية ومصنعا للحديد »

مترجم عن : مامات التوثيق الفرنسي - حول القرن التاسع عشر.


فأصبحت الاستثمارات الرأسمالية تتعدى نطاق البلد الواحد لتشمل عدة بلـدان وعـدة قطاعات اقتصادية، وبفرض الاجور الضعيفة على العمال وتشغيلهم عددا كبيرا من الساعات تضاعفت أربـاح رجـال الاعمال، ففي شركة « كارمـو » الفرنسيـة للمنـاجـم والسكـك الحديدية ، بلغت الارباح الصافية ما يلي:

بلغت الارباح الصافية

الارباح الصافية ( بالفرنكات الفرنسية )

وبذلك أخذت البورجوازية في أوربا الغربية تهيمن تدريجيا على الاقتصـاد بواسطـة الشركات والمصارف ، مما أدى الى تركز رؤوس الاموال بين أيديها خاصة منذ الربع الاخير من القرن التاسع عشر، وكان كبار رجال الاعمال يعقدون المحالفات بين مؤسساتهم لمواجهـة أزمات الركود الاقتصادي، كما قاموا مجتمعين بتأسيس شبه نقابات رأسماليـة مهمتها تقسيـم الاسواق وتحديد أسعار البضائع وأجور العمال .... الخ.

وتقوى تأثير أرباب الاعمال على المواقف السياسية لدولهم . وتكيفت الحياة العائلية لهذه النمط الرأسمالي: فالزواج يتم بين أبناء وبنات مديري الشركات ورؤساء المصارف .....

وكان الاباء يسهرون على تثقيف فتيانهم ثقافة متينة حتى يخلف الابناء آباءهم في تسيير الشركة، كما كان رجال الاعمال يعملون على تهييء فتياتهم للحياة العائلية ومظاهر البروز واللباس الانيق وطرق المعاملات والحديث ... الخ .

وعلى العموم فان التطور الحاد للرأسمالية ، جعل البورجوازية في أوربا الغريبـة تغتنـي وتتقوى وذلك على حساب قوة عمل اليد العاملة المأجورة.

2 ـ الطبقة العاملة : أصولها ووضعيتها الاقتصادية والاجتماعية :

كان من بين النتائج التي ارتبطت بالثورة الصناعية في أوربا الغربية هجـرة السكان مـن البوادي نحو المدن ، وذلك بفعل نمو الصناعات الكبرى واستقطابها لليد العاملة المأجورة.

وبين الجدول التالى مدى ضخامة اكتظاظ السكان في المدن :

ضخامة اكتظاظ السكان في المدن

وتلخصت الاسباب العامة لهذا الاكتظاظ في اتجاه الملاكين العقاريين الكبار نحو توسيـع ملكياتهم الفلاحية بشراء قطع الأراضي التي في حوزة صغار الفلاحين المفلسين.

ا ـ تميزت الحالة الاقتصادية اليد العاملة بضعف الاجور وبالعمل عـددا كبيرا من الساعات في اليوم :

نظرا لكثرة أعداد الراغبين في العمل فان جيشا احتياطيا منهم كان يسمح لارباب العمـل بأن يطبقوا عليهم « قانون العرض والطلب ، وذلك بأن يقدموا لهم أجورا جد ضعيفة ، كان من المفروض على العمال قبولها مع كونها لا تكفي حتى الحاجيات الضرورية للعيش، ويؤكد هذا ما کتبه أحد عمال صناعة الحديد الفرنسية سنة 1848 ـ في مذكراته :

« اذا قمنا بحساب مصاريف عائلة تتركب من ستة أشخاص يعيشون من أجر يبلغ فرنكين في اليوم ، أي ما يعادل 50 فرنكا شهريا ، مع اعتبار أن ( الاب ) العامل يشتغـل باستمـرار.

ومع وجود أربعة أطفال فان العائلة تثري يوميا ثلاث كيلوغرامات من الخبز بــ 0،30 فرنك للكيلوغرام الواحد ، أي 0،90 فرنك، ثم كيلوغراما من اللحم بـ 0،90 فرنك : فيكون المجموع 1،80 فرنك، ويبقى 20 سنتم للخمر والملح والخل والخضر وللمسكن والملبـس ....

واقل الاطفال سنا له من العمر ما بين أربع الى خمس سنوات ، وأكبرهم سنا لا يتعدى عمره عشر سنوات ، ولا يتقاضى أي طفل منهم شيئا ، وأمهم لا تستطيع العمل ...... »

متجم عن : ملفات التوثيق الفرنسي.

و في شركة « كارمو » الفرنسية للمناجم والسكك الحديدية مثلا، كانت أجور العمال جـد منخفضة عند منتصف القرن ، الا أنها أخذت في الارتفاع تدريجيا كما يلي:

أجور العمال جـد منخفضة عند منتصف القرن 19

الا أنه بالرغم من تلك الزيادة فان الاجور كانت دون تلبية الحاجيات الاساسيـة للعمال المأجورين لكون تكاليف المعيشة كانت تفوق بكثير مداخليهـم، ويتضح ذلك مـن الرسم البيـانـي التـالي :

الرسم البيـانـي

مقارنة أجور العمال مع تكاليف المعيشة في مختلف الصناعات الفرنسية ما بين 1840 و 1913.

ويلاحظ من خلال الرسم البياني بأن التغيرات التي طرأت على منحنى تكاليف المعيشـة تنعكس على منحنى الاجور خاصة قبل سنة 1880، كما أن الهوة الفاصلة بين المنحنيين تبيـن الحالة المادية الحقيقية التي عاش عليها العمـال الفرنسيون طيلة القرن التاسع عشر، أما عـن ساعات العمل فقد كانت عند بداية القرن تتراوح ما بين 16 و 18 ساعة في اليـوم، الا أنهـا انخفضت قليلا الى ما بين 12 و 14 ساعة عند منتصف القرن لكون العمـال كانـوا يشنـون الاضرابات المتلاحقة بفعل نمو الحركة العمالية والتنظيمات النقابية، ولم يتحقق تحديد ساعات العمل بثمانية خلال اليوم الواحد الا سنة 1919 أي بعد الحرب العالمية الاولى ، وخلال عقود كثيرة من القرن التاسع عشر لم تقنن العطل السنوية الخاصة بالمأجورين ولم يكـن مسموحا بيـوم عطلـة أسبوعي.

لم يكـن مسموحا بيـوم عطلـة أسبوعي

خروج عمال من معمل فرنس عند منتصف القرن التاسع عشر

ب - شكل الاطفال والنساء نسبة هامة من اليد العاملة الماجورة عند بداية القرن:

في سنة 1835 كانت الصناعات القطنية الانجليزية تشغل 29.000 طفلا لهم من العمر أقل من 13 سنة ، و 58.000 رجلا، وقد عبر أحد الاطفال الانجليز للجنة البحث عن وضعيته في العمل فقـال:

« بدات الاشتغال بالمعمل في سن السابعة ، وكان العمل هو خلج الصوف، وتستمر عدد ساعات العمل من الخامسة صباحا الى الثامنة ليلا يتخللها توقف لمدة نصف ساعة عند الزوال من أجل الاستراحة والاكل ، بينما لم يكن هنالك وقت للاستراحة والاكل بعد الزوال. وكنا نتناول وجباتنا بطريقة ما ، اما وقوفا أو بشكل آخر ... وفي سن السابعة ، كنت اشتغل 14 ساعة ونصف من العمل الالزامي، وكان حوالي 50 طفلا من نفس سني داخل هذا العمل في حالة صحية سيئة، فقد كان عدد المرضى منهم حوالي ستة أطفال بشكل دائم بسبب العمل المرهق، وكان الاطفال مجبرين على الانضباط في العمل بواسطـة سوط من الجلد، وتتمثل المهمة الرئيسية للمراقب في ضرب الاطفال بالسياط قصد اجبارهم على هذا العمل المرهق » . مترجم عن : ملفات التوثيق الفرنسي.
وكانت أجور الاطفال أضعف بكثير مما كـان يتقاضاه الكبار، ولذلك كان أرباب الاعمـال يجلبون الصغار من مختلف البوادي.

ج - كانت وضعية السكني جد سيئة والحياة العائلية لافراد العائلات في تدهور كبيـر:

ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبسبب ضعف الاجور والمدخول العام لافراد العائلات العمالية كان عناصر هذه الطبقة العاملة يبحثون عن ملاجيء يلجئون اليها ليلا، وتقوم عدة عائلات بالاشتراك والمساهمة في اكتراء مبنى ما أو حجرة تحت سطح الارض ويتكدسون داخل هذه الامكنة.

ويصف أحد الاطباء أحياء سكنية كان يقطن داخلها عمال بمدينة « ليل » الفرنسية سنة 1828:

(( تتكدس داخل السراديب مجموعة كبيرة من السكان . وكـل هـذه السراديب ـ تقريبا - مظلمة وباردة ، تشملها الرطوبة. وللمرور الى صحن بعض الدور المتداعيـة يلزم المرور بازقة طويلة، سوداء وغير نظيفة، وهناك، داخل بعض الغـرف الوسخـة تسكن عائلات بجوار المواد الغذائية التي تتناولها.اما بقية العمال ، والذين لا يقطنون في صحن الدور أو داخـل السراديب، فانهم يقيمون في الازقة الضيقة للمدينة)).
مترجم عن : ملفات التوثيق الفرنسي
اذن فازاء ضعف الاجور والعدد الكبير من الساعات التي يقضيها العامل داخل المعمل و ازاء حالة السكنى المزرية ، فان العلاقات العائلية داخل الاسر العمالية قد أخذت تتفسخ ونتج عنهـا تدهور في الاخلاق: فقد أدت حالة البؤس بالشبان و الرجال الى تعاطي الخمور كما انساقت الفتيات والنساء نحو ممارسة البغاء، وأصبحن يتخلين عن مواليدهن، ففي مدينة « ليـون » الفرنسيـة مثلا، وما بين 1829 و 1835 سجلت الاحصائيات بأن عدد المواليد الطبيعيين بلغ 48 %. وسجل في أحد مستشفيات المدينة ( ليون ) بأنه من بين 9.713 مولودا فان 5.270 منهم قد تخلت عنهم أمهاتهم وذلك في حقبة زمنية لا تزيد عن أربع سنوات ( 1825 - 1829 ). وانتشرت بين العائلات العمالية مجموعة من الامراض على رأسها مرض السل المعـدي. وكان العامل يحس الى جانب ذلك بأنه مهدد باستمرار بالبطالة، ويتخوف من دخـول الآلات الجديدة داخل المعامل ، هذه الآلات التي يرى بأنها تمنعه من حظوظ العمل. ومنذ منتصف القرن أخذت ظروف عيش اليد العاملة الاوربية تتحسن نسبيا عما كانت عليه في النصف الاول، الا أنه لا يمكن مقارنة هذا التحسن النسبي بالارباح التي جنتها الرأسمالية في أوربا الغربية: فمنذ 1851 الى 1873 سمح النمو الصناعي بأن تتضاعف أرباح رجال الصناعة الفرنسية أربع مرات ، في الوقت الذي زادت فيه الاجور بنسبة 40 % الى 45 في المائة، وما بين 1899 و 1914 ارتفع المستوى الادنى للاجور بنسبة 20 % بينما تضاعفت أرباح شركات الفحم الفرنسيـة مثـلا .

والخلاصة.

أن وضعية عمال بلدان أوربـا الغربيـة خلال هـذه المرحله مـن تطـور الرأسمالية كانت جد سيئة، وكانت أعدادهم في تزايد مستمر، ولم تبدأ الحركات العمالية المنظمة في الظهور الا ابتداء من منتصف القرن وتمكنت من تحقيق عدة مكتسبات وانبثق عن هذه التطورات مفكرون اشتراكيون اتجه أوائلهم اتجاها اصلاحيا، ثم تبلورت الاشتراكية العلمية منذ منتصف القرن على يد كارل ماركس وفردريك انجلز، كما برز الاديب الفرنسي « اميل زولا » برواياته المهمة والتي نذكر منها · L'assommoir و Germinal وL'argent والتـي تحـمـل صوراً حية عن هذه الصراعات

3 ـ تطور الحركة العمالية في دول اوربا الغربية الصناعية :

كيف نضجت وتطورت الحركة العمالية وكيف وكيف نظمت نفسها لمواجهة ارباب العمل.

  ا ـ نضجت الحركة العمالية على طول القرن التاسع عشر بفعل الصراعات التي خاضتها ضد ارباب العمل:

 في سنة 1831 قام عمال الحرير الملقبون بـ (كانو canut ) بمدينة « ليون » الفرنسية ، بفعل الظروف القاسية التي كانوا يعانون منها، بانتفاضة كبرى سيطروا خلالها على المدينة كلها و نظموا مظاهرات كانوا يحملون خلالها شعارا أساسيا ـ يدل على أن الحركة لم تنضج بعـد ـ وهو يقول : « لنعش ونحن نعمل أو لنمت ونحن نقاوم » وقد حملوا سبب شقائهم للالات التي دخلت المعامل ، فأخذوا يلقون بها في نهر الصون.

وتم سحق هذه الانتفاضة من طرف قوات الجيش التي بعثت بها الحكومة الفرنسية، الا أن عمال « ليون » عادوا للانتفاضة من جديد سنة 1834 فطالبوا ـ هذه المرة ـ بانشاء الجمهورية عوض المطالب السابقة، وتكلفت القوات الحكومية بقمع هذه الانتفاضة من جديد، وفي نفس السنة 1834 ، قامت انتفاضة أخرى بمدينة « باريس ، على أثر تخفيض أجور العمـال وتوقيف جمعيات التضامن الاجتماعي » عن العمل، وتعرضت هذه الانتفاضة الباريسية لمثـل مـا تعرضت لها مثيلتها بمدينة « ليون ».

 وفي انجلتـرا ظهرت الحركـة الشـارتيـة سنـة 1832، وهـى حركـة عمالية قامت في بدايتها بحمل مجموعة من العرائض الضخمة الموقعة ( 3.300.000 توقيع ) نحو البرلمان قصد المطالبة بإصلاحات نيابية تتلخص في تعميم حق التصويت وفرضسريتـه، ووضـع هـؤلاء العمال الانجليز ثقتهم الكاملة في البرلمان، وكانت آفاق هذه الحركة محدودة ، وتغلب هذا التيار العمال الانجليز منذ 32 18 الى 1848، ورغم أن الحركة الشارتية قـد حققت بعض المكاسب كتحديد يوم العمل في 10 ساعات سنة 1847 فانها ضعفت بعد فشل ثورات 1848 الاوربية.

 امام مثل هذه التجارب، استخلصت الحركة العمالية الاوربية دروسا منها أن الآلات لیست المسؤولة عن بؤس العمال، بل المسؤول هي نوعية العلاقات القائمة بين العمـال وأربـاب العمل وكان ضعف الحركة العمالية الى حدود منتصف القرن التاسع عشر يعود من جهة الى أن عدد العمال لا زال قليلا في هذه الدول التي بدأ بها التطور الصناعي، ومن جهة أخرى الى كون وعيهم كفئة اجتماعية لا زال غير ناضج ، والى عدم استقلال الحركة العمالية عن الحركات الليبيرالية القومية الى عاية 1848.

ومنذ بداية النصف الثاني من القرن وبحلول ثورات 1848 تعمق وعي العمال الاوربيسين وأخذوا ينتظمون داخل منظمات على الصعيدين الـوطـنـي والـعـالـمـي، فعلى المستوي الدولي نشأت « الاممية الأولى » سنة 1864 وذلك بمدينة لندن، وشملت ممثلـي عمال جميع دول أوربا وأصدرت توصيات من أجل العمل على تحرير العمال في مختلف مناطق العالم مـن القسر الذي يتعرضون له من طرف أرباب العمل، ولعبت « الاممية الاولى » دورا معنويا قبل كل شيء، ودفع بها اختلاف وجهات النظر ـ بين التيار الذي يتزعمه « کارل ماركس » والتيـار المساند « لبرودون » ثم تيار « بأكونين » الفوضوي ـ الى الانشقاق، ثم انحلت هذه المنظمة سنة 1876، وقامت بعدها « الاممية الثانية » سنة 1889 والتي انخرط فيها الى حدود 1913 حوالي 33 بلـدا، الا أن دورها انحصر في التنسيق بين مختلف الاحزاب الـدوليـة ، وفي عقـد مؤتمرات مرة كل ثلاث سنوات، وحددت مقرها ببروكسيل، واستطـاعت « الاممية الثانية » ، أن توحد الحركة الاشتراكية العالمية ، وتضم أزيد من ثلاثة ملايين عضو عند قيام الحرب العالمية ، الا أنها عانت من الصراع بين الاصلاحيين والثوريين ، فالاصلاحيون أمثال «جان جوریس» الفرنسي و « برنشتاين » الالماني، أما الثوريون فعلى رأسهم « گیسد » الفرنسي « ولينيـن » الروسي، وأدى تغلب الجناح الاصلاحي الى مساندة الاممية الثانية للحكومـات التـي دخلت الحرب الكبرى ( 1914 – 1918 ).

وبذلك انشقت الى أن تأسست الامميـة الثالثـة سنـة 1919 من بين الاحزاب الثورية وساهمت هذه الامميات في تعميق وعي الحركة العمالية ، ففرض مثلا فاتح ماي كعيد للشغل ابتداء من سنة 1890. ونال عمال عدة بلدان في أوربا وأمريكا الشمالية حق الاضراب و في فرنسا مثـلا ابتداء من 1864 ، وحق انشاء نقابات، كما نظمت اضرابات كبري نذكر منها اضراب 1883 بانجلترا والذي جعل أرباب العمل يخضعون لمطالب العمال وكذلك اضراب عمال المناجم بألمانيا 1882، واستمرت الحركة العمالية في المطالبة بالتخفيض من عدد ساعات العمل اليومي الى ثمانية.

وتم نمـو الحركة على يد عدة ملايين من العمال، ولاعطاء نظرة حية عنها نأخذ كمثال حياة أحد العمال الفرنسيين ويسمى « فارلان Varlin  ( 1839 - 1871) »:  فقد كان « فارلان » يشتغل في معمل لتجليد الكتب، وانخرط في الامميتين الاولى والثانية، وكان يدرس ، خلال الساعات القلائل التي يتوفر عليها خارج عمله ، الكتب والمؤلفات الاساسية التي ساعدتـه علـى الوضوح في الرؤيا للامور، وبمشاركته في المجتمعات العمالية الفرنسية أصبح أحد الشرايين الحيـة لها، وكان متواضعا ، لا يتكلم الا قليلا ، عندما يلزم توضيح الاتجاه الصحيح لنقاش ما أو موقف ما، وشارك في معارك كومونة باريس حيث تم اعدامه من طرف القوات النظامية يوم 28 ماي 1871.

ب ـ فرضت التنظيمات النقابية نفسها وحققت عدة مطالب :

استهدف التنظيم النقابي حقوق العمال و تحسين ظروف العمل قانونيا وماديا ، ولم تكن للعمال تشريعات اجتماعية تنظم العمل وتقنن شروطه وظروفـه، وظهرت النقـابـات الأولـى بانجلترا سنة 1824 ، بحكم أسبقية هذا البلد الى الثورة الصناعية، ثم أخذت الحركة النقابية تعم سائر الدول الأخـرى الاخـذة بالصناعة، الا أن اعترافات الحكومات بالنقابات لم يتم الا في الثلث الاخير من القرن التاسع عشر و في فرنسا مثلا سنة 1884.

وتكـائـر عـدد النقابات بعد ذلك وتضاعفت أحجام المنخرطين فيها، فبلغ عددهم في انجلترا حوالي سنة 1880 ما يناهز ألف نقابة، وانخرط في النقابات الفرنسية حوالي مليون عامل وفي ألمانيا حوالي 3 ملايين عامل، وتكونت أنـواع من الاتحادات النقابية : اتحاد أفقي يضم جميع العمال المشتغلين فى المدينة الواحدة أو الاقليم الواحد بصرف النظر عن اختلاف مقنهم ، ثم اتحاد عمودي يشمل عمال المهنة الواحدة أو المهن المتقاربة ثم هيئات مركزية نقابية ينضوي تحتها مجموع النقابيين على الصعيد الوطني مثل فيدرالية (( تراد أو نيون - Trade Union )) بانجلترا والتي تشكلت منذ 1868 ، وكذلك  (( الفيدرالية الأمريكية للشغل )) التي تكونت بالولايات المتحدة الامريكية سنة 1886 ، ثم الفيدرالية العامة للشغل بفرنسا والتي تأسست سنة 1895.

واستعملت النقابات الاضرابات والمظاهرات وفي بعض الاحيان المواجهات العنيفة ضد السلطة كوسائل للصراع من أجـل ضمان تحسين أكبر لوضعية العمال، فتم تحديـد سـاعـات العمل بصفة عامة، وضمنت بعض النقابات بأن يكون السن الأدنى لقبول الاطفال في العمـل هو العاشرة، وأن يحدد نوع العمل الذي يقوم به أولئك الاطفال الى جانب ذلك وضعت قوانين لوقاية اليد العاملة كالتأمين ضد حوادث الشغل وضد الامراض بل وفي بعض البلدان فرضت تعويضات التقاعد.

ولم يتم تطبيق هذه المطالب النقابية الا ما بين 1890 و 1910 بانجلترا ، أما في فرنسا فلم يقع ذلك الا عند بداية القرن العشرين.

والخلاصة أن الحركة العمالية في أوربا قد عرفت نضجاً مستمرا طيلة القرن التاسع عشر، واذا كانت عند بداية القرن حركة ضعيفة غير واضحة المعالم والافاق فانها تقـوت تـدريجيا بفعل المواجهات المتعددة وبفعل النمو الصناعي.

قد يهمك أيضا:

التحولات الإقتصادية في اروبا || ثالثا: تطور أساليب القرض

التحولات الإقتصادية في اروبا || ثانيا: إزدهار القطاعات الإقتصادية

إرسال تعليق

أحدث أقدم